كفاح كانت ليلة من ليالي الشتاء

كفاح

كانت ليلة من ليالي الشتاء الباردة وقد ظهر البدر في كبد السماء فأشرق على البساتين الغافية في برودة ونعاس.. وكان الطريق صامتاً هادئاً إلا من صياح ثعلب يأتي من بعيد من الجبل خلف بساتين النخيل.. وكنت خارجاً من بيت صديقي في المدرسة حيث الليلة ليلة جمعة، وقد أنسنا بالأحاديث وحرارة النار المتقدة بحطب السمر.
سرتُ في الطريق وفي رأسي تدور أحاديث كثيرة لم أتمكن من أن أسردها على صديقي.. حول المدرسة، والأساتذة، ولعبة كرة القدم، وغرفة الرسم، وعند منعطف الطريق المحاذي للمسجد كان يقبع بيت "أبو إبراهيم" بيت متواضع متطامن الحيطان ظهر بين البيوت الأخرى مزرياً ببابه الخشبي القديم ونافذته الخشبية المستطيلة التي ينبعث منها ضوء شاحب ضئيل.. وحينما حاذيت النافذة ترامى إلى سمعي صوت يأتي من غرفة الجلوس: أنا فلاح قدير.. ثم يتابع طفل: أنا فلاح قدير.. أنا فلاح قدير.. أنا فلاح قدير أزرع الحب الكثير. وشدني الفضول فدنوت من النافذة ومن الخصّ الذي ينبثق منه الضوء رأيت إبراهيم منكباً على كتاب وبجانبه الأخ الصغير منبطحاً على بطنه يحدق في الكتاب المدرسي. إبراهيم يردد.. والصغير يتابع. الأب والأم يتابعان في هدوء واستمتاع، والأخت الكبرى توزع فناجين الحليب بالزنجبيل فيصعد بخارها في الفضاء الشاحب مختلطاً برائحة الحطب.
كانت أنفاس الليل هادئة وكان ضوء القمر يشع في حيطان البيوت المقابلة.. ولا شيء يحرك سكون الليل إلا صوت إبراهيم وصوت الصغير وهو يتابعه في ضعف وكسل.
وانسللت من مكاني، وراح الصوت الضعيف يتبعني: أنا فلاح قدير.. أنا فلاح.. أنا فـ..أ.
وراح الصوت يتلاشى في سكون الليل.. ولكن الصوت أخذ يدوي في أذني ويكبر.. يكبر.. وتكبر صورة "أبو إبراهيم" العامل البسيط.. الفقير الذي قضى حياته في القرية، يعمل في البناء، ونقل الأخشاب، وشذب جريد النخيل، يأخذ أجره الضئيل من هذا، ومن ذاك ليعول هذه الأسرة البسيطة اللطيفة، وراح يزرع بماء عرقه وكفاحه في هذا البيت الضئيل بواكير العلم والمعرفة.. وظللت حيناً من الدهر أمر على البيت الضئيل فيخيل إليّ أنه قصر.. ففيه من الدفء والطموح ما يجعله أكبر من ذلك.
وظللت ألاقي "أبو إبراهيم" في الشارع وطرقات القرية وهو يحمل حزمة العلف فوق رأسه، أو هو يضع مسحاته على كتفه فأشعر بهيبة وجلال لهذا الرجل الذي يجمع بين البساطة والعظمة.
ومرت الأيام وفرقت القرية أهلها..
وقبل فترة مررت بالبيت فرأيته كما هو بل زاد ضآلة وشحوباً. وخدشت الأمطار، والإهمال واجهته، إلا أن الباب لايزال كما هو، والنافذة، لاتزال كما هي، وتذكرت العائلة ورحت أسأل عنها بإلحاح وشغف.. فقيل لي إن إبراهيم صار طبيباً، وإن الطفل الصغير ـ محمداً ـ أستاذ في الجامعة، أما الأخت فأصبحت مديرة مدرسة. فامتلأ صدري بمزيج من الفرح والإجلال لذلك الأب المكافح العظيم.. وراح ذلك الصوت في تلك الليلة الشتائية المظلمة يتردد على سمعي: أنا فلاح قدير.. أزرع الحب الكثير.. أزرع الجد الكثير.. أزرع الأمل الكبير.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصة نيوتن...الطريق للنجاح

مقولات في النجاح

مبادئ قراءة الخارطة